كتب منير الربيع في “المدن”:
في حالات التحول السياسي، أو ما تستشعره الدول والمجتمعات من تغيير “للخرائط”، تطفو على السطح محاولات استنباط ما يربط “الثقافة التاريخية ببعد انتروبولوجي”، ويتم التعاطي مع الأمر بوصفه “وقائع قابلة للتحقق”. شعوب كثيرة تعايشت مع هذه الأفكار، وتعود إليها حالياً. بالنظر إلى الخرائط وتغيرها، كثر يشبّهون ما يجري بأنه مرحلة شبيهة بحقبة الحرب العالمية الأولى وما بعدها، أي مرحلة سقوط الأمبراطوريات ونشوء الدول القومية. في خضم هذا النشوء الكياني للدول، برزت حركات فكرية، أو حزبية أو ثقافية، تدعو للعودة إلى التاريخ الأقدم. ففي مصر برزت نزعة التركيز على الجانب الفرعوني من قبل جهات رفضت منطق الهوية الوطنية المصرية أو القومية العربية. في تركيا، هناك من بقي متمسكاً بالعثمانية بدلاً من القومية التركية. في إيران وعلى الرغم من إسلامية النظام، إلا أن الخلفية تبقى هي القومية الفارسية. وفي لبنان انقسمت الاتجاهات، بين القومية اللبنانية التي تعود إلى الفينيقيين، أو القومية السورية التي تعود إلى سوريا الطبيعية، أو القومية العربية.
اليمين الإسرائيلي عراب السردية
اليوم، تتجدد مثل هذه الأفكار، ويتم العمل من قبل كل جهة على ربطها سياسياً وفق السياق الذي تراه كل مجموعة مناسباً. ويدخل إلى الميدان مسؤولون أو مبعوثون. فمثلاً المبعوث الأميركي توم باراك تحدث أكثر من مرة عن بلاد الشام أو ضم لبنان إلى سوريا، فيما آخرون يتحدثون عن “عثمنة” جديدة انطلاقاً من تطور المشروع التركي في المنطقة. في المقابل، هناك سردية أخرى تستعاد لبنانياً من خلال استعادة منطق “الفينقة”، بينما هناك في مصر من يعود إلى استخدام رمزيات فرعونية. أما في سوريا وبعد سقوط الأسد فقد راج كثيراً مصطلح “الأموية”. لكن العرّاب الأكبر لذلك يبقى اليمين الإسرائيلي الذي يعود إلى التوراة، ويقدم سرديات كثيرة يحاول فيها الاندماج أكثر في المنطقة، من خلال مخاطبة “الفراعنة” حول علاقة تاريخية بينهم وبين العبرانيين، وكذلك في مخاطبة الفينيقيين وعلاقتهم بالعبرانيين والعلاقة بين الملك سليمان والملك حيرام.
السلام الاقتصادي
يتم إسباغ مثل هذه النظريات ووضعها في سياق سياسي. هي فكرة يسعى الإسرائيليون إلى تغذيتها والترويج لها في إطار إعادة صوغ توازنات وتحالفات جديدة في المنطقة، تستنبط الفكرة الرمزية أو المعنوية، ويتم وضعها في قالب أصبح يُطلق عليه عبارة “السلام الاقتصادي” كمقدمة للسلام السياسي. وعليه، يتم استخدام كل هذه السرديات في سياق مشاريع سياسية واقتصادية تتصل بالنفوذ والمصالح وكيفية إعادة تشكيل موازين القوى.
بين إسرائيل وتركيا
لذا فإن الصراع الأساسي هو صراع سياسي واقتصادي، وهو في إطار التنافس بين قوى متعددة، لها رؤى متضاربة على مستوى المنطقة والعالم. وبعد الضربات التي تلقتها إيران، وأدّت إلى تراجع مشروعها، تتصارع قوى عديدة للتقدم أكثر، أبرزها إسرائيل التي تريد تغيير وجه الشرق الأوسط، وأن تكون الدولة صاحبة الوصاية على المنطقة والأكثر تفوقاً فيها. في المقابل، تبرز تركيا كصاحبة دور أساسي ومؤثّر في ساحات عديدة خارج حدودها، من سوريا إلى غزة، ويبرز اتفاقها مع ليبيا الذي يضمن لها نفوذها في البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى تحسين علاقاتها مع دول الخليج، ناهيك عن نفوذها المتوسع في القوقاز والبلقان.
المنطقة أمام تحالفين
عملياً، تبدو المنطقة كأنها تنقسم بين تحالفين: تحالف تسعى إسرائيل إلى تكريسه إمّا بالقوة، أو بما تسميه السلام الاقتصادي، وتحالف آخر تسعى تركيا إلى تعزيزه، وهو ما تبلور أكثر بعد سقوط نظام الأسد، والعلاقة الاستراتيجية مع سوريا والانفتاح والتقدم في مسار العلاقات التركية السعودية، خصوصاً في ظل قناعة عربية مشتركة بأنه لا يمكن ترك إسرائيل تحقق مشروعها، لأن هذا المشروع يهدّد دول المنطقة ككل. تحاول إسرائيل التصويب على تركيا بوصفها دولة “إسلامية” أو يحكمها حزب إسلامي، وهو ما تريد من خلاله استقطاب دول عربية مناهضة للإسلام السياسي ومناهضة للمشروع التركي إلى جانبها، وهو الأمر نفسه الذي تسعى إسرائيل إلى تكريسه ضد سوريا التي يرأسها أحمد الشرع.
اتجاهات أميركية
التحالفان يبقيان في حاجة إلى التوافق مع الولايات المتحدة الأميركية، وكلاهما يتمتعان بعلاقات استراتيجية معها. اللافت أن الاتجاهات مختلفة داخل الإدارة الأميركية نفسها. طبعاً تجتمع الآراء على مصلحة إسرائيل وحماية أمنها، ولكن البعض يعتبر أنه يمكن دمج دول المنطقة بها من خلال شراكات واستبعاد التنافس، بينما جهات أخرى داخل الإدارة تنحاز إلى إسرائيل بالكامل، وتبقى على مواقف غير متحمسة للتحالفات أو التكتلات الأخرى.
نتنياهو وطموحات الغاز
في ظل رسم المشهد العام، يبرز توقيع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لاتفاقية الغاز مع مصر، والتي وصفها بأنها الاتفاقية الأكبر والأكثر استراتيجية. يأتي ذلك بعد يومين من زيارة لرئيس وزراء اليونان، والرئيس القبرصي لإسرائيل، حيث جرى البحث في تعزيز التحالفات في مجال النفط والغاز، وفي مجال الدفاع المشترك. عملياً، تجتمع هذه القوى عند مواجهة “النفوذ التركي”. بينما تركيا تجد نفسها على علاقة استراتيجية مع سوريا والسعودية، ولديها طموحات مشتركة في فتح خطوط تجارة برية وبحرية بينها وبين الخليج عبر سوريا، بالإضافة إلى اعتمادها كمحطة أساسية لتصدير الغاز نحو أوروبا.
إسرائيل مهتمة بلبنان اقتصادياً
يأخذ التحالف التركي السوري السعودي طابعاً “سنياً”، بينما التحالف الآخر يسعى إلى تقديم نفسه بوصفه حامياً للأقليات بوجه هذا البحر من الأكثرية. لكن أيضاً الشعار يستخدم في سياق سياسي ومصلحي يرتبط بحسابات كل دولة. لبنان يقف على فالق زلزالي أمام هذه المعادلة أو هذا الانقسام. يتعرض لضغوط كبيرة للوصول إلى اتفاق مع إسرائيل. وفيما رفض لبنان مبدأ اتفاق السلام، يستخدم الإسرائيليون مصطلح “اتفاق اقتصادي”، بخلاف ما يستخدمونه في سوريا، وهو مصطلح “اتفاق ترتيبات أمنية”. ما يعني ان إسرائيل تريد من سوريا ضمان أمنها بخلق منطقة عازلة ومن دون اتفاق يلزمها باحترام السيادة السورية، ويتيح لها التدخل ساعة تشاء هناك، وهو ما تريده في لبنان أيضاً، ولكن مقابل اتفاق شراكات اقتصادية، ليس فقط في الجنوب عبر إنشاء منطقة اقتصادية، بل في البحر وخصوصاً اتفاق حول الغاز.
… وفرنسا ومصر
إلى جانب الهجمة الإسرائيلية والتركيز الدائم على الاتفاق الاقتصادي مع لبنان والدخول في مفاوضات اقتصادية، فإن لبنان يحظى باهتمام دول كثيرة، أبرزها فرنسا التي تسعى للحفاظ على نفوذها ودورها في المتوسط، ولا ترضيها حصتها في سوريا، وهي التي ترفع دوماً شعار حماية الأقليات وأيضاً الدفاع عن سايكس بيكو. كذلك بالنسبة إلى مصر، التي على الرغم من وجود علاقات ديبلوماسية مع تركيا إلا أنها لا ترحب بأي دور تركي في المنطقة، وهي تعتبر نفسها في حالة مواجهة مع أي نظام يأخذ طابعاً إسلامياً، وكذلك فإن مصر ليست على علاقة جيدة مع سوريا، لذا تبدو مهتمة جداً بالدخول إلى لبنان ولعب دور سياسي، امني، عسكري وحتى اقتصادي لا يتصل فقط بتفعيل الاتفاقيات الزراعية أو التجارية، بل يشمل الغاز في البحر.
تحالف شرق أوسطي
إسرائيل، تسعى إلى إعادة إحياء تحالف دول شرق المتوسط، وذلك في حال لم تنجح في إقامة مشروع “طريق الهند” الذي يصل إليها عبر الخليج ومنها إلى أوروبا. تريد إسرائيل من خلال إحياء تحالف دول شرق المتوسط، أن تكون قاعدة التصدير الأساسية للغاز نحو أوروبا. وفي هذا الإطار تندرج زيارة رئيس الوزراء اليوناني ورئيس قبرص إلى تل أبيب، وفي الإطار نفسه، يندرج توقيع اتفاقية الغاز مع مصر. وعلى المدى الأبعد، تريد إسرائيل للبنان أن يكون ضمن هذا التحالف، وهنا لا ينفصل هذا المسار عن الدخول المصري في مسعى سياسي، ولا عن ترسيم الحدود بين لبنان وقبرص والذي تزامن مع زيارة وزير خارجية مصر إلى بيروت.
خياران للبنان
أمام هذا الصراع في المنطقة، فإن لبنان سيشهد تجاذباً متعدد الأوجه، أولاً على صعيد النتائج التي ستوصل إليها المفاوضات مع إسرائيل وهي حتماً لن تتوقف عند حدود الجانب الأمني ووقف الاعتداءات وعودة السكان، بل هذه ستكون كنتيجة للمفاوضات الأوسع التي تريدها تل أبيب. هنا ثمة من سيدفع لبنان إلى واحد من خيارين، إما العلاقة مع سوريا ومع التحالف الذي يلتف من حولها ويمكن أن يجعلها قاعدة تقاطع أساسية بين الشرق والغرب. وإما العلاقة مع إسرائيل والتحالفات التي تسعى إلى فرضها بالقوة أو بما يسميه الإسرائيليون الإغراء الأمني والاقتصادي، لتكون هي محطة التقاطع الأساسية بين الشرق والغرب.




