أخبار عاجلة
زلزال اقتصادي يضرب إيران -
هل تقع الحرب أم ينجح “الرقص على حافتها”؟ -
الإرادة اللبنانية حاسمة لاستكمال “حصرية السلاح” -
مشروع الفجوة المالية نجم ساحة النجمة في الـ2026 -
تفاهم مصري – لبناني يمهد لتعاون مستقبلي في الطاقة -
الـH3N2 يضرب لبنان: قدرة المستشفيات نفذت -
تنميل الوجه المفاجئ.. إشارة لا تُهمل -
هدى شعراوي تكشف موقفها من دخول ابنتها في عالم الفن -
مشروع قانون الفجوة بتوقيع فرنسي؟ -

لماذا تتراجع الدعوات الرهبانية؟

لماذا تتراجع الدعوات الرهبانية؟
لماذا تتراجع الدعوات الرهبانية؟

كتب مروان الشدياق في “نداء الوطن”:

ليس لبنان مجرّدَ جغرافيا تُعلَّق على خرائط الشرق. لبنان، في عمقه، حكاية صلاة طويلة، وعرق رهبان شقوا الصخر ليزرعوا معنى الوطن قبل أن تُزرع حدوده. هنا، حيث قامت الأديرة كقناديل على رؤوس الجبال، وارتفعت الكنائس كأصابع تشير إلى السماء، بُني “مجدُ لبنان” على كتف الدعوات المكرَّسة: رهبان وراهبات نذروا العمر ليكونوا قلبًا يصلّي، ويدًا تخدم، وعقلًا يعلّم، ووجهًا يشهد.

لكن مع تسارع الزمن وتبدّل المجتمع، صار السؤال ثقيلًا ويُقال همسًا ثمّ جهرًا: هل ما زال لبنان ينجب دعوات؟ وهل ما زال شبابه يسمعون الصوت الذي كان يومًا واضحًا في صمت الأديرة؟ “نداء الوطن” جالت على عدد من الرهبانيات، واستقصت واقع الدعوات اليوم عبر مقابلات مباشرة مع مسؤولين ومعلّمين للمبتدئين ومسؤولي دعوات ومكرَّسين في قلب الخبرة. فكان المشهد مركّبًا: أزمة واضحة بالأرقام وبالوقائع، يقابلها رجاء هادئ يتقدّم ببطء في بعض البيوت الرهبانية، ولا سيّما تلك التي تتيح للشباب والصبايا مساحات الانقطاع عن ضجيج العالم للإصغاء إلى اللّه.

التراجع لم يعد انطباعًا
الأب نجم شهوان، معلم المبتدئين في الرهبانية اللبنانية المارونية، يضع اليد على التحوّلات كما هي: الرهبانيات ليست خارج المجتمع، بل تتأثر بما يضرب العائلة والاقتصاد والأمن والهجرة. ويشرح أن حجم العائلة تقلّص والهجرة اتسعت، ما انعكس مباشرة على الدعوات.

ويقدّم الأب شهوان مقارنة صريحة: عام 2016، ومع نهاية ولايته الأولى كمعلّم ابتداء، كان هناك نحو 80 إلى 90 مبتدئًا ومبتدئة موزعين على 22 رهبانية كاثوليكية رجالية ونسائية في لبنان. أما حين عاد وتسلّم المهمة مجددًا العام الماضي، فقد تراجع عدد الرهبانيات المشاركة في مراحل الابتداء إلى ثماني رهبانيات فقط، أي أن المشهد تقلّص إلى ما دون النصف.

وفي الرهبانية اللبنانية المارونية تحديدًا، يقول إن عدد المبتدئين كان 25 عند تسليمه المهمة سنة 2016، فيما أصبح اليوم 12 مبتدئًا، أي تراجع يقارب النصف. ومع ذلك، يرفض مقاربة الدعوة بمنطق الإحصاء وحده، مؤكدًا أن المطلوب اليوم “دعوات مسؤولة” تكمّل رسالة المسيح لخير الكنيسة، وأن “رب الكرم” هو صاحب الكرمة والمسؤول عنها.

ولا يغفل الأب شهوان عن الإشارة إلى عنصرٍ يشكّل “قوة جذب” روحية في لبنان: قديسوه وطوباويّوه. فيراهم خميرةً تُبقي الرسالة ممكنة: مار شربل، مار نعمة اللّه الحرديني، القديسة رفقا، والطوباوي الأخ اسطفان نعمة… هؤلاء الذين يجعلون الداخل إلى الحياة المكرّسة يشعر أنه لا يُضيّع حياته، بل يضعها في موضعها الصحيح. ويختصرها بعبارة لافتة: “مع المسيح لا يضيع حتى كوب ماء”.

المجتمع يتغيّر… والدعوة تتأثر
في دير مار يوسف – جربتا، عند ضريح القديسة رفقا، تتحدث الأخت جومانا ساسين، مسؤولة الدعوات الرهبانية، بنبرة واقعية لا تخلو من الرجاء: تراجع العائلة كخلية أساسية للمجتمع وتناقص عدد أفرادها أمرٌ طبيعي أن ينعكس على الدعوات. لكنها تشدّد على أن اللّه في كلّ زمن يرسل دعوات وأشخاصًا يكرّسون ذواتهم له.

وتلفت الأخت ساسين إلى تحوّل نوعي في ميول الدعوات النسائية: في هذه الأيام، يبدو أن كثيرين ينجذبون إلى الحياة الديرية الجذرية، أي الحياة المنحصرة بالدير والابتعاد عن ضجيج الناس والمجتمع، وكأن الشباب والصبايا يبحثون عن مساحة يعبّرون فيها عن عطشهم الداخلي بعيدًا من الإيقاع السريع للحياة الحديثة.

وتقارب ساسين أيضًا ظاهرة أخرى: بعض الرهبانيات التي وُلدت تاريخيًا لخدمات محدّدة (كالتعليم أو مجالات رعوية معيّنة) تتراجع أعدادها حين تتبدّل الحاجة الاجتماعية أو تخفت الكاريزما كما كانت تُعاش سابقًا، فتبدأ “تتحلحل” تدريجيًا.

وعن مواكبة الرهبانيات للعصر، ترى أن الحضور على وسائل التواصل الاجتماعي بات نافذة ضرورية، لأنه يعرّف الناس إلى الرسالة ويقوّي عامل “الشهادة”. لكنها تتوقف عند نقطة دقيقة: أحيانًا تؤدّي الصرامة الإدارية أو سوء فهم المجتمع لدور الراهب أو الراهبة إلى نفور البعض، فالناس لا يميّزون دائمًا بين الخدمة التي يقدّمها المكرّس وبين حقيقة حياته الرهبانية. وتقول بوضوح إن الراهب أو الراهبة ليسا “بابا نويل”، بل شهود حياةٍ ونعمة.

أما بالأرقام داخل رهبانيتها، فتشير إلى وجود طالبتين ومبتدئتين. أعدادٌ قليلة قياسًا بالماضي، لكن الاتكال يبقى على العناية الإلهية وعلى الشهادة اليومية للزائرين، ولا سيّما أن الأديرة في جربتا وسواها مزارات روحية يمرّ فيها الناس مثقلين بتعبهم، ويبحثون عن وجهٍ مُضيء يذكّرهم أن اللّه حاضر.

“المرسلون اللبنانيون”
في جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، يقدّم الأب جورج سلوم، رئيس إكليريكية مار يوحنا الرسول – حريصا، قراءة تاريخية تحمل ملامح استثناء: خلال الثمانينات كانت الجمعية تُعرف بين الناس بـ “جمعية الثلاثين” لأنها بقيت ثابتة تقريبًا عند 30 كاهنًا. اليوم، يقول الأب سلوم، أصبحت الجمعية تضمّ 97 كاهنًا موزعين بين لبنان و 14 بلدًا حول العالم.

لكن حتى هذا النمو لم ينجُ من ارتدادات المرحلة: بعد جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية اللبنانية، شهدت الدعوات تراجعًا عامًّا في الرهبانيات والأبرشيات. ويرى سلوم أن من الأسباب الأساسية هجرة الشباب، إضافة إلى الضغط العائلي: كثيرون يقفون أمام خيار مؤلم بين متابعة مسيرة التمييز أو البقاء قرب أهلهم بعدما تراجعت القدرة المعيشية وفقدت ضمانات كانت تعين العائلة.

وفي مواجهة ذلك، يشدّد سلوم على انتقال ملحوظ من التركيز على “العدد” إلى التركيز على النوعية والكفاءة. ويشرح أن الجمعية تعتمد لقاءات تمييز ومرافقة قد تمتدّ سنة أو أكثر لمساعدة الشاب على الإصغاء الحقيقي لصوت اللّه والخروج من ضجيج العالم. فالدعوة، كما يقول، لا تُلتقط وسط الصخب، بل في فسحة صمتٍ تسمح للقلب أن يسمع.

وبأرقام الجمعية الحالية: إلى جانب الـ 97 كاهنًا، هناك شماس واحد يتحضر للسيامة الكهنوتية صيفًا، وشدياقان، وأربعة إخوة، ومبتدئ جديد يسير نحو نذوره. ويختم سلوم بطمأنة تحمل بُعدًا كنسيًا: المشروع مشروع اللّه، وهو الذي يرسل فعلةً لكنيسته عندما تدعو الحاجة.

“العائلة المقدسة المارونيات”
الأخت نورا الخوري حنا، معلّمة الابتداء في جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات، تقارب المشهد من زاوية مختلفة: نعم، الدخول إلى الحياة المكرّسة أقلّ من السابق في لبنان والعالم، لكن الجمعية شهدت في العامين الأخيرين دخول خمس مبتدئات: اثنتان في السنة الثانية وثلاث في السنة الأولى، مع طالبة واحدة تتحضر للدخول إلى الابتداء. وتقرّ بأن الجمعية مرّت سابقًا بفترة انقطاع بالدعوات، قبل أن تبدأ هذه الحلحلة الهادئة.

وعن “الحافز” الحقيقي للدخول، تقول إن المحرّك ليس اسم الجمعية بحدّ ذاته، بل يسوع المسيح والعلاقة الشخصية به. وتطلق تشخيصًا لافتًا: المشكلة ليست دائمًا في غياب الدعوة، بل في ضعف الاستجابة، لأن عالم اليوم يفتقد المساحات التي تتيح للشاب أو الصبية الإصغاء إلى الذات أولًا ثمّ إلى صوت اللّه.

وتستحضر مقولة للقديس أغسطينوس بمعناها الروحي العميق: “أحببتك أولًا، وكنت أفتش عنك في الخارج، وأنت في داخلي!”. فالأزمة الأساسية، كما تشير، هي العودة إلى الداخل حيث يخاطب الربّ القلب. ومن هنا، يصبح دور الرهبانيات أن تؤمّن مساحات صمت وصلاة وتمييز، وأن ترافق الشبيبة عبر مسؤولي الدعوات والطالبية والابتداء، لكي لا يبقى النداء فكرة مبهمة، بل يتحول إلى مسار واضح: أين أتجه بدعوتي؟ وأي نمط من الحياة المكرّسة يريده الرب لي: ديري، نسكي، رسولي؟

من داخل بيت الابتداء
وعندما نصل إلى الخبرة الحيّة، إلى “الداخل” الذي لا يُرى من الخارج، يتبدّل الكلام. هنا، خُصّصت لـ “نداء الوطن” زيارة إلى بيت الابتداء في جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات – عبرين البترون، حيث التقى فريقنا المبتدئات، وشارك لحظات صلاة صامتة أمام أيقونة والدة الإله. في هذا المناخ، لم تعد الدعوة رقمًا، بل صارت وجهًا.

سافينا الحكيم، مبتدئة في الجمعية، تختصر خبرتها بكلمات قليلة لكنها محمّلة بالمعنى: تقول إن ما عاشته “لا تصفه الكلمات”، وإنها كانت تسمع عن هذه الخبرة ولم تعرف حقيقتها إلّا حين اختبرتها. وتصف الدعوة بأنها ليست مجرّد “صوت”، بل هي حضور… حضور مختلف “يعطي ما لا يستطيع العالم أن يمنح جزءًا صغيرًا منه”. وتتكلم عن السلام بوصفه الكلمة الأقرب، مع اعترافها بأن أي وصف يبقى أرضيًا أمام حقيقة ما يُعطى في العمق.

وتربط سافينا هذا النداء برسالة مؤسس الجمعية البطريرك الياس الحويك، معتبرةً أن حضور اللّه داخل العائلة اليوم حاجة ملحّة، لأن العائلة إن تَصلَّحت صارت مثالًا يُنمّي المجتمع كلّه.

“المريميون”… نعمة تعود
أمّا المدبر العام الأب جهاد يونس، مسؤول خدمة الدعوات في الرهبانية المارونية المريمية، فيضع الأزمة في إطار أوسع: ليست أزمة رهبنة فقط، بل أزمة “دعوات” بمعنى أعمق، في الزواج، في العمل، وفي خيارات الحياة كلّها. العصر يتغيّر، والمجتمع يتبدّل، ومن الطبيعي أن تهتز أشكال الالتزام.

ويشير إلى أن الأعداد كانت تتفاوت سنويًا: أفواج كبيرة وأخرى صغيرة، لأن النداء في النهاية “صوت الرب”. ويقدّم واقع الرهبانية اليوم: ستة مبتدئين بين السنة الأولى والثانية (فالابتداء سنتان)، ثمّ ينتقلون إلى النذور الموقتة ليصبحوا إخوة دارسين. ويضيف أن هناك 13 أخًا في دير القديسة تريز – سهيلة يدرسون الفلسفة، و 7 إخوة في دير روما. ويعترف بأن السنوات السابقة شهدت فترات صعبة وانسحابات كثيرة، لكن هذا العام تبدو “نعمة الله” أوضح، كأن الرب يفتح نافذة جديدة وسط تعب طويل.

بين الانحسار والرجاء
تتقاطع شهادات من التقيناهم على حقيقتين، فالتراجع واقعٌ لا يُنكر، إذ إن أرقام الابتداء انخفضت، وعدد الرهبانيات المشاركة في مراحل الابتداء تقلّص، والدعوات النسائية لدى بعض البيوت تتراجع إلى حدّ الاكتفاء بدير أو ديرين وبضع راهبات.

ولكن، الرجاء لم يمت، بعض الرهبانيات تسجل حلحلة بطيئة، وبعضها يجذب دعوات، خصوصًا حيث تُتاح حياة أكثر جذرية، أو حيث تتوافر مرافقة تمييز ومساحات صمت، وحيث تتحول “الشهادة” اليومية إلى لغة مفهومة للشبيبة.

وبين هاتين الحقيقتين، يبرز سؤالٌ لا بدّ من طرحه بجرأة: هل نعطي شبابنا فرصة ليسمعوا؟ أم نغرقهم أكثر في الضجيج؟ وهل ما زالت العائلة، المدرسة، والرعية تزرع فيهم معنى الإصغاء؟ أم صار كلّ شيء “مستعجلًا” حتى على اللّه؟

رسالة إلى الشبيبة
إلى شباب لبنان وصباياه: الدعوة ليست فكرة رومانسية ولا هروبًا من الحياة. الدعوة هي أن تجد حياتك في موضعها الصحيح. قد يدعوك الربّ إلى الزواج، وقد يدعوك إلى خدمةٍ في العالم، وقد يدعوك إلى الدير حيث يصبح القلب بيتًا للصلاة من أجل الجميع. لكن الشرط الأول واحد: أن تسمع.

اسرقوا من ضجيج أيامكم لحظة صمت. أقفلوا الشاشات قليلًا كي تفتحوا نافذة الداخل. اسألوا أنفسكم بصدق: ماذا يريد الرب مني؟ وأين أكون أكثر امتلاءً، أكثر حرية، وأكثر سلامًا؟ لا تخافوا طريق التمييز، ولا تخافوا أن تقتربوا من الأديرة، من مرشدي الدعوات، من الاعتراف والصلاة. فالرب لا يسرق أحدًا من فرحه، بل يقوده إليه.

ورغم كلّ أزمة، يبقى لبنان بلد الأديرة التي لا تزال ترفع بخور الصلاة فوق جراح الناس. قد تقلّ الأعداد، لكن إن بقيت الدعوة “مسؤولة” و “أمينة” و “مشتعلة”، يكفي لبنان شعلة واحدة كي يضيء. فرب الكرم لا يترك كرمه. والكنيسة، مهما تعبت، تعرف أن الله ما زال ينادي… ومن يملك الشجاعة ليجيب؟

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق حصاد 2025 الفلسطيني في لبنان: عام سحب السلاح بامتياز
التالى الميلاد بلبنان: زينة بالملايين و650 ألف أسرة بلا عيد!